البيت الطيني الكويتي: جدران تحفظ الدفء
قبل أن تشيد الأبراج الزجاجية وتفتح أبواب التكييفات، كان بيوت الكويت تبنى من طين، بسيطة في مظهرها، عميقة في معناها. بيوت لم تبن فقط لتسكن، بل لتضم أرواح ساكنيها، وتحفظ حكاياتهم، وتعيش معهم الفرح، والتعب، والمواسم.
البيت الطيني الكويتي لم يكن مجرد مأوى، بل كان تعبيرا عن بيئة، وعن عقلية واعية بالموارد، ومتأقلمة مع مناخ لا يرحم: صيف حارق، وشتاء قاس، ورياح محملة بالرمال. ومن قلب هذا التحدي، ولد الطين كحليف طبيعي، يحفظ البرودة ويعزل الحرارة.
كيف يبنى بيت من الطين؟
كانت البداية دوما من الأرض. يجمع الطين من محيط المنطقة، ويخلط بالماء والقش وأحيانا بشعر الماعز، ويترك ليجف حتى يصبح ما يعرف بـ”اللبن” لبنات طينية تشكل يدويا، تجفف تحت الشمس، ثم ترص فوق بعضها بمونة من نفس المادة.
لا يستخدم الإسمنت ولا الحديد، بل الخشب لسقوف الغرف، غالبا من جذوع النخيل، التي تغطى بـ”الباسجيل” (سعف النخيل المجدول)، ثم بطبقة طينية عازلة. أما الأبواب والنوافذ، فكانت تصنع من خشب الساج المستورد من الهند، ثقيلا ومتينً، لكنه دافئ الطابع، يزين أحيانا بنقوش بسيطة.
ملامح الحياة داخل البيت
لم تكن البيوت الطينية تبنى كيفما اتفق. بل كان لكل بيت تصميم يراعي نمط الحياة الكويتية، ويمنح الخصوصية، ويعكس القيم. يبدأ البيت عادة بـ”الحوش” (الفناء الداخلي)، الذي هو قلب البيت النابض. مساحة مفتوحة تتجمع فيها العائلة، تستخدم للطهي أحيانا، للعب، لنوم الصيف، وللسمر.
تحيط بالحوش عدة غرف:
- الديوانية: غرفة استقبال الرجال، تقع عادة عند مدخل البيت، بعيدا عن غرف العائلة.
- المطبخ: ركن بسيط غالبا ما يكون مكشوفا، يحتوي على موقد طيني وأوان نحاسية.
- المخزن (غرفة صغيرة): لحفظ التمر والدهن والمواد الغذائية الجافة.
- غرف النوم: وتكون مرتفعة قليلا، ذات نوافذ صغيرة لضبط دخول الهواء، ومغطاة بالسقف الطيني السميك.
الأسقف العالية والنوافذ المتقابلة كانت وسيلة تهوية ذكية، تضمن تدوير الهواء رغم حرارة الصيف. أما في الشتاء، فكان الطين يحتفظ بالدفء، مانعا تسرب البرد الشديد.
طابع معماري بألوان التراب
لون البيت الطيني لم يكن مدهونا، بل طبيعيا من الطين ذاته. بين درجات البني، والرملي، والبيج المائل للرماد. الألوان كانت جزءا من البيئة، تنسجم مع الأرض والسماء، وتشعر من يسكنها بأنه جزء من المكان، لا غريب عليه.
وكانت بعض البيوت تزين بلمسات جمالية بسيطة: نقوش على الأبواب، خطوط بيضاء من الجص على الزوايا، أو مصابيح زيتية تعلق في المداخل.
البيت و العائلة: علاقة دفء واحتواء
العائلة الكويتية كانت كبيرة، ومتعددة الأجيال تحت سقف واحد. وكان البيت الطيني يحتضن هذا الامتداد بروح منفتحة. لم تكن هناك غرف مغلقة على نفسها، بل كل شيء مشترك. إذا مرض أحدهم، علم الفريج كله. وإذا زارهم ضيف، كان الضيافة جماعية، والكرم واجبا لا يناقش.
وإن ولدت امرأة في أحد البيوت، شاركت النساء في الاعتناء بها، وكانت الزغاريد تسمع من بيت إلى آخر. وإذا حلت مصيبة، تجمع الجيران في الحوش يواسون، ويساندون. البيت لم يكن جدرانا، بل نفسا حيا.
ماذا تبقى من تلك البيوت؟
مع وصول الحداثة، بدأت هذه البيوت تختفي. دخل الإسمنت، وظهرت العمارات، وانتقلت الحياة إلى الشقق المرتفعة، والأبواب المغلقة. لكن بقيت بعض البيوت الطينية في شرق، قبلة، والجهراء تقاوم الزوال، وتحمل في جدرانها ما لا يمكن نسيانه.
تحول بعضها إلى متاحف، وبعضها إلى أطلال، لكن الكويتيين يعرفون، في ذاكرتهم، شكل الباب الخشبي، وحرارة الأرضية ظهيرة الصيف، وظلال السقف المنسوج من الباسجيل، وعبق الغبار المختلط بالذكريات.
البيت الطيني لم يكن مكانا فقط. كان فصلًا من حياة. كان المكان الذي يولد فيه الأطفال، ويكبر فيه الحب، وتسمع فيه أولى القصص، وتودع فيه الأحباب. ولذلك، سيبقى البيت الطيني، حتى وإن رحل، ساكنا في قلب كل كويتي.

مستشار وخبير في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تطوير المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية، صانع محتوى وأوامر الذكاء الإصطناعي.