الحياة اليومية في الفريج قديما
في وقت لم تكن فيه العمارات الشاهقة قد ارتفعت، ولا السيارات قد ملأت الطرق، كانت الحياة في الكويت تنبض في الفريج. لم يكن الفريج مجرد حي سكني، بل كان مجتمعا متكاملا، يعرف فيه الناس بعضهم بالاسم والصوت والرائحة، ويتشاركون تفاصيل اليوم من طلوع الفجر حتى هدأة الليل. في الفريج، لم تكن هناك حاجة للسياج أو الأقفال، فالباب الموارب كان يكفي، والثقة كانت حارسة البيوت.
يبدأ يوم الفريج مع أول خيوط الشمس. يسمع صوت المؤذن من مسجد الحي الصغير، وهو ينادي لصلاة الفجر، فترتفع الأرواح قبل الأجساد. الرجال يتجهون إلى المسجد بخطى هادئة، يتبادلون السلام وهم يسحبون غترهم على أكتافهم. بعد الصلاة، يعود كل منهم إلى بيته ليبدأ نهاره، لكن قبل أن يغلق بابه، لا ينسى أن يلقي التحية على الجار الذي مر للتو.
النساء يستيقظن مبكرا أيضا، بعضهن يبدأن في تجهيز الخبز في التنور، وآخريات يغسلن الملابس في الزبيل أو يحضرن الفطور من تمر وقهوة عربية تغلى على نار الفحم. الأطفال يفتحون أعينهم على رائحة الخبز الساخن وصوت الأم وهي ترتب ثياب المدرسة، أو تناديهم للذهاب إلى “الكتاب” حيث يتعلمون القرآن والحروف الأولى.
البيت في الفريج كان بسيطا في شكله، لكنه غني بدفئه. غرف قليلة، وسطح البيت يستخدم للنوم في ليالي الصيف، وساحة داخلية تمارس فيها الحياة اليومية: غسل، طهي، حديث، وحتى لعب. وكانت الجيره جزءا لا يتجزأ من هذا الإطار، فالبيوت مفتوحة، والقلوب أوسع. إذا طبخت إحداهن أكلة مميزة، فلا بد أن ترسل لجارتها صحنا منها. وإذا مرض أحد سكان الفريج، سرعان ما تجتمع النساء لمساعدته، والرجال يتناوبون في قضاء حاجاته.
الأطفال في الفريج كانت لهم مغامراتهم اليومية. لا ألعاب إلكترونية ولا شاشات، بل ساحات ترابية، وأزقة ضيقة مليئة بالحياة. يلعبون “المصي” و”الدرباحه” ويضحكون بأعلى صوتهم وكأن العالم كله ملعب. البنات يجلسن في ظل الجدران، يصنعن الدمى من القماش، ويغنين أغاني شعبية جميلة يعلمونها لبعضهن البعض.
الرجال، بين من يعمل في البحر نوخذة أو غيصا أو سيبا، ومن يعمل في السوق أو الدكاكين الصغيرة داخل الفريج. وإذا عاد أحدهم من البحر، استقبلته الأحبة بالفرح والتمر والقهوة، وامتلأت الديوانية بالحكايات. كانت ديوانية الفريج كالمجلس البلدي الصغير، تحل فيها المشاكل، وتصاغ القرارات، وتتبادل الأخبار.
وفي المساء، حين تنخفض حرارة الشمس وتبدأ النسمات بالتسلل، يجلس الكبار على البسط خارج البيوت، يشربون الشاي، ويتحدثون عن أحوال الناس والرزق والبحر. تمر عربة البقال الصغير ينادي على اللبن أو الثلج، وتعود النساء من المسجد أو من زيارة قريبة، ويبدأ الفريج في الانسحاب بهدوء نحو ليل دافئ.
وفي المناسبات، يتحول الفريج إلى ساحة احتفال. في رمضان، يعلق الفانوس في منتصف الحي، وتوزع الأكلات بين البيوت. في العيد، تفتح الأبواب ويخرج الأطفال بملابسهم الجديدة، يتنقلون من بيت إلى بيت يجمعون العيديات، وتعلو ضحكاتهم في الأروقة. وإذا تزوج أحد أبناء الفريج، امتلأ المكان بالغناء والزغاريد وعبق البخور.
الفريج لم يكن فقط بيوتا متلاصقة، بل أرواحا متصلة. كانت الحياة بسيطة، لكن التفاصيل فيها كانت عميقة. لم تكن هناك رفاهية، لكن كان هناك دفء. لم تكن هناك وفرة، لكن كانت هناك بركة. واليوم، حين ننظر إلى الماضي، لا نشتاق إلى البناء، بل إلى الناس، إلى الطيبة التي كانت تسكن الوجوه، وإلى الحياة التي كانت تبدأ من الزاوية، وتصل إلى القلب.

مستشار وخبير في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تطوير المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية، صانع محتوى وأوامر الذكاء الإصطناعي.