السوق الداخلي وسكة عنزة نبض العاصمة القديم
في قلب مدينة الكويت القديمة، وقبل أن تتزين الشوارع بالأسفلت والمباني الشاهقة، كان السوق الداخلي ينبض كقلب العاصمة، يخفق كل صباح حين تفتح الدكاكين أبوابها، وتتعالى أصوات الباعة، وتتناثر روائح البهارات والعطور في الهواء. هناك، في الزحام الممزوج بالبساطة والحميمية، كانت تدور عجلة الحياة، وكان الكويتيون يشترون ما يحتاجون ويصنعون ذكريات لا تنسى.
السوق الداخلي لم يكن مجرد مكان للتجارة، بل كان مسرحا مفتوحا تتقاطع فيه مسارات الناس والقصص، تتلاقى فيه الأجيال. يقع بين دروب ضيقة تتفرع من سكة عنزة، تلك السكة التي بدأت كطريق بسيط ومرتفع قليلا، وكان يقال إن التسمية جاءت من قطيع عنز كان يمر فيها بانتظام كل صباح، ومع الوقت أصبحت السكة اسما رسميا يلتصق بتاريخ السوق وتفاصيله.
كان السوق الداخلي يتكون من دكاكين صغيرة، مبنية من الطين والحجارة المرجانية، تتراص بجانب بعضها البعض، يفصل بينها ممرات ضيقة مسقوفة أحيانا بجذوع النخيل أو الخشب لحماية الزبائن من شمس الصيف اللاهبة. في كل زاوية من زواياه كان هناك لون، ورائحة، وصوت مختلف. بائع الأقمشة ينادي على الزبائن، يفرش أمامه الحرير والقطن والشماغ والغترة، يقلبها بمهارة ويعرضها بفخر. وبالقرب منه دكان العطار، الذي تمتلئ رفوفه بأكياس الحناء، وقوارير العطور، وأكياس التوابل القادمة من الهند، والعلاج الشعبي الذي توارثه عن آبائه.
أما بائع الذهب، فكان له حضور خاص في السوق. جالس خلف طاولة خشبية عليها ميزان صغير وصندوق مغلق، يحيط به الرجال والنساء الذين يساومونه على خواتم ومشاخص وأساور، تشترى للمناسبات أو تهدى في الأعراس. كان الذهب في تلك الأيام رمزا للفرح، والشراء منه طقس لا ينسى.
وفي أقصى السوق، تجلس باعة التمر، تفرش منتجاتها في “جفير” من الخوص، وتعرض أنواع التمر الكويتي والنجدي والإيراني، وتزن الكمية بميزانها اليدوي. تمر بجانبها نساء يحملن “السفر” و”الخرايط”، يملأنها بالخضار أو الأسماك، ويتبادلن الحديث مع البائعات في دلال وألفة.
وسكة عنزة، تلك الطريق المحاذية للسوق، كانت أكثر من مجرد معبر. كانت شريانا تتدفق منه الحياة إلى السوق، تمر فيها العربات التي تجرها الحمير، محملة ببضائع قادمة من البصرة أو من البحر، وتنطلق منها خطوات الناس نحو السوق أو إلى بيوتهم. كانت السكة معروفة أيضًا ببعض الورش الصغيرة، مثل الحدادين والنجارين، الذين يعلو صوت مطارقهم في الصباح، كأنها موسيقى افتتاحية ليوم جديد.
أيام الجمعة، يهدأ السوق قليلا، وتتحول جلساته إلى لقاءات اجتماعية أكثر منها تجارية. يجلس كبار السن في ظل الدكاكين، يتبادلون أطراف الحديث عن الماضي، وعن ما جلبته السفن، وما باعه النوخذة في آخر رحلة. أما الأطفال، فكانوا يتجولون في السوق بفضول، يشترون الحلويات من بقالة صغيرة، أو يقفون مندهشين أمام بائع الطيور أو حامل قفص الأرانب.
وللسوق الداخلي وسكة عنزة حكايات لا تعد. قصص عن تجار بدؤوا من دكان صغير وأصبحوا من أعمدة السوق، وحكايات عن غرباء جاؤوا وتركوا أثرا، وأخرى عن بائع لم يعرف اسمه، لكنه كان يضحك دائما ويوزع الحلوى على الأطفال. كانت تلك الأمكنة شاهدا على تحولات الكويت من قرية ساحلية صغيرة إلى عاصمة تنبض بالحياة.
ورغم أن الزمن أخذ معه الكثير من ملامح السوق، وغطت ناطحات السحاب مكان تلك الأزقة، فإن السوق الداخلي وسكة عنزة ما زالا يعيشان في الذاكرة الكويتية كرمز للأصالة والتجارة النزيهة والروح الشعبية. وما زال الكويتي إذا مر من هناك، يستعيد في ذاكرته أصوات الباعة، ورائحة البهارات، ودفء العلاقات، ويهمس في داخله: هنا كان النبض، هنا كان السوق.

مستشار وخبير في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تطوير المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية، صانع محتوى وأوامر الذكاء الإصطناعي.