النواخذة و أبطال البحر: سادة الأمواج ورواد اللؤلؤ
حين يهدأ كل شيء في المدينة، ويغفو الناس على أصوات الرياح الدافئة القادمة من جهة الخليج، هناك حكاية تستيقظ كلما ارتفعت أمواج البحر. حكاية لا تروى من على اليابسة، بل تخرج من عمق المياه المالحة، من سفن خشبية كانت تهتز فوق الموج بثبات العزيمة، ومن رجال صاغتهم الأيام في حضن البحر وصبرت عليهم الشمس والملح. هؤلاء هم النواخذة، أبطال البحر الكويتي، الذين كتبوا تاريخ بلدهم على صفحة الماء.
لم يكن البحر مجرد مصدر رزق للكويتيين القدماء، بل كان شريكا في بناء الهوية. وكان النوخذة هو ربان هذا الشريك، القائد، والخبير، وصاحب القرار في لحظات الفرح والخطر. أن تكون نوخذة لم يكن أمرا سهلا ولا لقبا يمنح، بل كان مسؤولية تكتسب بالتجربة، بالشجاعة، وبالحكمة. النوخذة لم يكن مجرد قائد سفينة، بل كان أبا للطاقم، وسيدا للمركب، ومفسرً للنجوم، ومفاوضا في أسواق الغوص.
تبدأ رحلة النوخذة قبل الإبحار بكثير. كان عليه أن يجهز سفينته، ويختار بحارته، ويؤمن الزاد والماء، ويحسب التوقيت بدقة كي لا يخطئ موعد الغوص. ثم تأتي لحظة الانطلاق، حين تبحر السفينة على أنغام الدعاء وأهازيج “اليامال”، ويتحول البحر إلى مسرح للبطولة والصبر.
في البحر، كان لكل فرد على ظهر السفينة دوره، لكن النوخذة كان هو المركز. هو من يقرر متى تغوص السفينة وأين، وهو من يقودها في وجه العواصف، وهو من يحملها اللؤلؤ إن أكرمها البحر، أو يعيدها بخفي حنين إن خانها الحظ. وكان عليه أن يعرف لغة الرياح، واتجاهات التيارات، ومواقع الهيرات التي تحتضن اللؤلؤ.
أشهر النواخذة الكويتيين لم يكونوا مجرد أسماء، بل كانوا أساطير حقيقية. أناس يذكرون حتى اليوم في جلسات السمر، وفي كتب التاريخ الشعبي. أسماء مثل النوخذة حسين بن عيسى، والنوخذة عبد الله بن ناصر، والنوخذة حمد الدعيج، وغيرهم كثيرون، كانوا أعمدة للملاحة في الخليج، تتعلم الأجيال من قصصهم كيف تصنع القيادة بالحكمة وليس بالقوة فقط.
كان موسم الغوص يبدأ عادة في فصل الصيف، ويستمر لعدة أشهر، يعرف باسم “الغوص الكبير”. وكان طاقم السفينة يضم ما بين أربعين إلى ستين رجلا، يتوزعون بين الغاصة والسيوب والمجادمة والنبوتية وغيرهم. والغاصة هم من يغوصون فعليا إلى قاع البحر لجمع المحار، بينما السيب هو من يسحبهم إلى السطح بالحبال. أما النوخذة، فكان يراقب الجميع، يسجل المحصول، ويحافظ على الروح المعنوية.
لا ينسى الكويتيون كيف كانت أمهات البحارة يودعن أبناءهن على الشاطئ بالدموع والدعوات، ولا كيف كانت السفن تستقبل عند العودة بالزغاريد والاحتفالات، حتى لو كانت المحصلة متواضعة. فكل عودة من البحر كانت عودة من معركة، وكل رحلة غوص كانت مغامرة فيها الحياة أو الغياب الطويل.
أبطال البحر لم يكونوا النواخذة وحدهم، بل كل من ركب معهم البحر، من الصغير الذي يملأ القرب بالماء إلى الشيخ الذي يحفظ أهازيج الغوص عن ظهر قلب. كانت السفينة بيتا عائما، وكانت كل مهمة فيها تعني بقاء الجميع.
في زمن ما قبل النفط، كانت اللؤلؤة هي الحلم. قطعة صغيرة تخرج من قاع البحر بعد ساعات من الغوص ومصارعة المجهول، لتباع لاحقًا في أسواق بومباي أو البصرة أو البحرين. وكان النوخذة هو من يفاوض على الثمن، ويقسم الأرباح بعدل، ويحرص على أن يعود كل بحار إلى أهله بشيء مما أكرمهم به البحر.
ورغم قسوة الحياة على ظهر السفينة، فإن هناك شيئا عجيبا كان يجمع هؤلاء الرجال: رابطة لا تنكسر، وإيمان بأن البحر يختبر الرجال ويصنعهم. كانوا ينامون على سطح السفينة، يطهون الطعام الجماعي، يغنون الأغاني البحرية في المساء، ويتشاركون الحكايات التي تخفف عنهم وطأة التعب. لم تكن هناك رفاهية، ولكن كان هناك شرف، وكان هناك فخر بأن يكون الإنسان من أبناء البحر.
مع اكتشاف النفط وتغير ملامح الاقتصاد، انحسرت مهنة النوخذة وتراجعت أساطيل الغوص، لكنها لم تختفِ من ذاكرة الوطن. اليوم، تقف بعض السفن القديمة في المتاحف، أو تستخدم في المهرجانات التراثية، لكن حكايات النواخذة لا تزال تروى. تدرس في المدارس، وتحكى في المجالس، ويحتفى بها في المناسبات الوطنية، لأنها تمثل مرحلة من الزمن كان فيها كل شيء صعبا، لكنه حقيقي.
الكويت مدينة بحر، ونبض البحر لا يزال يعيش في أهلها. النواخذة وأبطال البحر ليسوا مجرد ماض نروي حكاياته، بل هم جذور راسخة، علمتنا كيف نحب الأرض ونحن على ظهر الماء، وكيف نؤمن بالمصير ونحن في قلب المجهول. إنهم عنوان الشجاعة، وأيقونة الصبر، وأمثولة في القيادة المتزنة.

مستشار وخبير في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تطوير المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية، صانع محتوى وأوامر الذكاء الإصطناعي.