فرجان الكويت القديمة: حين كانت الحياة تبدأ من الزاوية
في تلك الأزقة الضيقة، حيث يمتد ظل البيوت الطينية مع حركة الشمس، كانت تبدأ الحكاية. لم تكن الكويت كما نعرفها اليوم: أبراج عالية، شوارع واسعة، وعناوين محددة بدقة. بل كانت خريطة الروح مرسومة بين “فرجان” صغيرة، هي الأحياء الأولى التي شكلت النواة الحقيقية للمجتمع الكويتي.
الـ”فريج” ليس مجرد حي، بل كان عالما مصغرا يضم كل تفاصيل الحياة. هو أكثر من مجموعة منازل متقاربة؛ هو نبض حي، وامتداد لعائلة، ومساحة من الأمان، حيث الكل يعرف الكل، والباب لا يغلق إلا للنوم، والجار لا يطرق بابه بل ينادى من الشباك أو يزار في أي وقت.
الفريج: الكيان الحي
ما يميز الفريج الكويتي القديم ليس فقط ضيق أزقته أو تشابه منازله، بل هو علاقته العميقة بالناس. لم تكن هناك خرائط ولا أسماء شوارع، بل كان يقال: “بيته بفريج الزهاميل”، أو “بيتهم عند مسجد فريج سعود”. وكان الطفل يعرف طريق بيت خاله عبر الأزقة الملتفة دون أن يضيع، لأن كل زاوية تحمل ذكرى، وكل جدار فيه علامة يعرفها.
كان الفريج يحتوي على كل ما يحتاجه السكان تقريبا: مسجد صغير يجتمع فيه الناس للصلاة والمشاورة، بقالة شعبية تبيع ما تيسر من الحاجيات، ساحة ترابية يركض فيها الأطفال ويلعبون “الدسه” و”الصقلة” و”الطمه”، ومكان ظل تروى فيه الحكايات عند الغروب.
النساء يجلسن أمام الأبواب في العصر، يتبادلن القصص ويجهزن الطعام، والأطفال يتجولون حفاة بلا قلق، يعرفون أن كل بيت في الفريج بيتهم، وأن كل كبير سيؤدبهم بحنان إن أخطأوا، ويحتضنهم إن بكوا.
أشهر فرجان الكويت
من أشهر الفرجان القديمة التي عرفت بها مدينة الكويت:
- فريج سعود: أحد أقدم فرجان شرق، اشتهر بقربه من البحر وبتجاوره مع بيوت كبار النواخذة.
- فريج العوازم: كان يتمركز فيه أبناء قبيلة العوازم، معروف بروابطه القوية وبساطته الشعبية.
- فريج الشيوخ: ضم بيوت عدد من شيوخ آل صباح، وكان من الفرجان ذات الطابع السياسي والاجتماعي المرموق.
- فريج بن خميس وفريج الشملان وفريج الزهاميل: لكل فريج منها قصته، وبيوته المميزة، ومسجده الخاص، وشخصياته التي بقيت في الذاكرة.
وفي الجهراء، كان هناك فرجان أخرى تتمايز بطابعها البدوي أو الزراعي، حيث يختلف شكل البيوت قليلا، وتميل الحياة إلى البساطة المفرطة والقرب من المزارع والبر.
من فريج إلى مدينة
مع مرور الزمن، بدأت الفرجان تتغير. جاء العمران الحديث، وظهرت العناوين الرسمية، وتوسعت الدولة. صارت الفرجان تتلاشى، تدمج في الشوارع الجديدة، وتمحى من الذاكرة شيئا فشيئا. لكن الكويتيين لم ينسوا أسماء فرجانهم. ما زال الكثيرون حتى اليوم حين يسألون عن مكان سكناهم قديما، يقولون “كنا ساكنين بفريج نايف”، أو “أنا من فريج الصرارفي”.
وتحولت بعض الأسماء إلى رموز: فريج الشيوخ صار موقعا حكوميا، وفريج الزهاميل أصبح شارعا، لكنها لا تزال تعيش في الكلام، في الدعاء، في النكتة، وفي الحنين.
الفريج مدرسة الحياة
الذين كبروا في الفرجان، تعلموا فيها كل شيء. تعلموا المشاركة دون شروط، والاحترام دون حاجة لقوانين. تعلموا أن لكل بيت حرمة، ولكل كبير حق، ولكل محتاج نصيب. لم تكن هناك حاويات نفايات، لأن الكل مسؤول، ولم تكن هناك كاميرات مراقبة، لأن عيون الجيران تسهر على كل شيء.
وحين خرجت الأجيال الجديدة إلى العالم، بقيت الفرجان معهم. ربما تغير المكان، لكن الفريج الحقيقي عاش في القلب.

مستشار وخبير في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تطوير المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية، صانع محتوى وأوامر الذكاء الإصطناعي.