أسواق الكويت القديمة: قلب المدينة ونبض الحياة
في قلب الكويت القديمة حيث كانت الأزقة تضيق لتحتضن المارة وتتشابك الأرواح قبل أن تتشابك الأيادي، ولدت الأسواق. لم تكن مجرد أماكن للبيع والشراء بل كانت مراكز للحياة الاجتماعية، ساحات للتبادل الثقافي، ونوافذ تطل منها المدينة على العالم.
كانت الأسواق القديمة في الكويت تتنفس كما يتنفس الناس، تنام معهم وتصحو على وقع خطواتهم الأولى مع الفجر. في الصباح الباكر حين لا تزال الشمس تستأذن للدخول، يفتح الباعة أبواب دكاكينهم الخشبية، يفرشون بضائعهم، ويرتبون أعواد البخور ليملأ المكان بعطر لا ينسى. هناك في الزوايا، يتجمع النواخذة يتبادلون أخبار البحر، ويتحدث التجار عن البضائع القادمة من الهند، وعن موسم اللؤلؤ هذا العام.
أشهر هذه الأسواق بل قلبها النابض لسنوات طويلة كان سوق المباركية. لا أحد يدخل هذا السوق دون أن يشعر بأنه انتقل إلى زمن مختلف، زمن كانت فيه الحياة أبسط، ولكن أكثر دفئا. الأزقة المرصوفة بالحجارة، الدكاكين الصغيرة التي تحمل أسماء أصحابها، رائحة التوابل والبن والقهوة، أصوات الباعة وهي تنادي بعفوية، وضحكات الأطفال وهم يركضون خلف عربات الفواكه، كل شيء هناك كان حياة متكاملة لا ينقصها شيء.
وكانت هناك أسواق متخصصة، لكل مهنة سوقها ولكل حاجة دربها. سوق الذهب، بسقفه الخشبي الذي تحمله أعمدة الزمن، كان يلمع تحت ضوء الشمس كما تلمع الحكايات في عيون العرسان الجدد. ليس مجرد مكان لبيع الحلي، بل معرض دائم للفن الكويتي في أبهى صوره، حيث تتداخل النقوش اليدوية مع رمزية المناسبات، ويتحول الذهب إلى ذاكرة تلبس.
أما سوق الصرافين، فقد كان من الأماكن التي تشتم فيها رائحة المال، ولكن دون صخب البنوك الحديثة. هناك يجلس الرجال على مصاطب حجرية، يبدلون العملات، يكتبون إيصالات بخط اليد، ويتحدثون عن الأحوال الاقتصادية بأسلوب يشبه الحكمة الشعبية أكثر من علم الاقتصاد. لا حواسيب، ولا أجهزة حديثة، فقط الثقة والورقة والقلم.
ومن لم يزر سوق واجف، فاته الكثير. هذا السوق كان بمثابة الخيمة الكبيرة التي يجتمع تحتها أهل الكويت وزوارها، من داخل المدينة وخارجها. يقال إن هذا السوق سمي بـ”واجف” لأن الناس كانوا يقفون فيه وقوفا، لا يتوقفون عن التفاوض والمساومة. وهناك، كانت القصص تروى أكثر مما تباع البضائع، وكان الغريب يصبح صاحب بيت خلال لحظات.
ولا يمكن الحديث عن أسواق الكويت القديمة دون ذكر سوق السمك. كان مكانا مليئا بالحركة، بالأصوات المرتفعة، وبالروائح القوية التي لا يخطئها أنف. الصيادون يعودون من البحر محملين بما جاد به الخليج، ويبدأ المزاد، وترتفع الأصوات في تنافس لا يخلو من الطرافة. وهنا كما في كل الأسواق، كانت الوجوه تبتسم، والأحاديث تنساب كما تنساب المياه في الخلجان.
لكن الأسواق لم تكن فقط للتجارة، بل كانت منابر للتواصل، وأحيانا للسياسة، وغالبا للفن الشعبي. الشعراء الشعبيون كانوا يمرون بين الدكاكين، يلقون قصائدهم، ويتلقون الرضا في شكل دراهم أو دعوات طيبة. والحرفيون، من الخراز إلى الحداد، كانوا يفتحون ورشاتهم على مرأى الناس، يصنعون أمامهم الأحذية والسكاكين والمفاتيح، ويتحدثون عن يومياتهم بمرح رغم التعب.
المرأة الكويتية لم تكن غائبة عن هذه الصورة، بل كانت حاضرة بقوة. كثيرات كن يبعن البخور، والعطور، والملابس، ويجلسن خلف الطاولات الخشبية بخفة الروح وقوة الشخصية. كانت الأسواق تحترم المرأة، وتمنحها مكانتها دون حاجة لقوانين مكتوبة، فالاحترام كان عرفا متأصلا.
مرت الأيام، وتغير وجه المدينة، وأصبحت الأسواق الحديثة مكيفة، نظيفة، أنيقة، ولكنها أيضا أكثر برودا. تراجعت الأسواق القديمة في بعض الأحياء، لكن الذكريات ظلت حية. لا يزال الكبار يحدثون الصغار عن “سوق السلاح” الذي كان يباع فيه كل ما يحتاجه الصياد أو الجندي، وعن “سوق المقاصيص” حيث كانت تباع الأشياء المستعملة والمفقودة وكأنها كنوز، وعن “سوق الفحم” و”سوق التمر” و”سوق الزل” وغيرها من الأسماء التي اختفت من اللافتات ولكنها عالقة في الذاكرة.
ما زال سوق المباركية قائما، ويمثل اليوم قطعة حية من الماضي، يجمع بين التاريخ والسياحة، بين الأصالة والانفتاح. هناك من يذهب إليه ليشتري، وهناك من يذهب فقط ليشتم رائحة الماضي، ويستمع إلى صدى الأقدام القديمة على حجارة الطريق.
وهكذا، تبقى أسواق الكويت القديمة ليست مجرد أماكن، بل فصولا من حكاية بلد عاش بين البحر والصحراء، وبنى حضارته من عرق الناس وبساطتهم. هذه الأسواق كانت وستظل مرآة للكويت، مرآة تعكس روحها الأصيلة ودفء مجتمعها، مهما تغير الزمن.

مستشار وخبير في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تطوير المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية، صانع محتوى وأوامر الذكاء الإصطناعي.