الديوانية الكويتية: منبع التواصل ومرآة المجتمع
في فريج الكويت القديم، وبين البيوت الطينية التي تعانق بعضها بحميمية، كانت هناك غرفة واحدة تظل مفتوحة طوال الوقت، أبوابها لا تغلق، وجدرانها تحفظ ما يقال فيها كما تحفظ الأم أسرار أولادها. إنها الديوانية، المكان الذي لا يشبهه شيء، والذي لم يبنى فقط من طين أو حجر، بل من علاقة الناس ببعضهم، من ثقة، ومن عادات، ومن احترام أصيل.
الديوانية لم تكن مجرد غرفة ملحقة بالمنزل، بل كانت امتدادا للشارع، وللفريج، بل للمجتمع كله. كل بيت كويتي تقريبا، كان له ديوانية، تختلف في الحجم أو الأثاث، لكنها تتشابه في الروح. في داخلها، تصنع الحكايات وتتداول الآراء، وتولد قرارات صغيرة تؤثر في حياة الناس، وأحيانا في حياة البلد كله.
من زمان السوالف إلى زمن المواقف
قبل ظهور الصحف، وقبل أن يعرف الناس منصات التواصل، كانت الديوانية هي “الوسيلة”، وهي “المنصة”، وهي مجلس الحكم الشعبي الذي لا يرفع أحد فيه يده ليصوت، لكن يحترم فيه صوت الكبير، وتقدر فيه كلمة الحكيم. يجتمع الرجال عند غروب الشمس، أو بعد صلاة العشاء، على سجاد بسيط، وأحيانا على الأرض مباشرة، يتبادلون الأخبار، يناقشون قضايا الديره، يتشاورون في الزواج، في التجارة، في الأسفار، وفي كل ما يهمهم كأفراد وجماعة.
وكانت هناك ديوانيات مشهورة بكونها مجالس علم، وأخرى مجالس تجارة، وبعضها مجالس شعر وسوالف. وتنوعت أسماء الديوانيات مثل تنوع الناس أنفسهم: ديوانية آل فلان، ديوانية البحارة، ديوانية النواخذة، ديوانية المربين، ديوانية الشيوخ. وكانت كل واحدة مرآة حقيقية لأهلها، تعكس ثقافتهم، طباعهم، ومستوى تفاعلهم مع المجتمع.
القهوة: أكثر من مشروب
حين يدخل الضيف إلى الديوانية، يستقبل أولا بالفناجين. لم تكن القهوة مجرد عادة، بل كانت طقسا كاملا يبدأ من رائحة الهيل وينتهي بابتسامة المضيف. كان “صباب القهوة” يعرف من يجب أن يقدم له أولا، ومن تعاد له الفنجان مرة ثانية، ومن تقرأ على وجهه علامات الاستعداد للحوار أو الاكتفاء بالاستماع.
وكان من عادات الديوانية أن الفنجان لا يملأ بالكامل، وأن الضيف إن هز الفنجان بيده بعد الشرب، فهذا يعني الاكتفاء. أما إذا لم يهزه، فيصب له من جديد.
وللقهوة مكانة لا يمكن فصلها عن الديوانية، فهي المفتاح غير المعلن للمزاج، وللبداية الهادئة، ولإشعار الزائر بأنه بين أهله، لا في زيارة رسمية.
السياسة تبدأ من هنا
في فترات مفصلية من تاريخ الكويت، تحولت الديوانية من مساحة ترفيه اجتماعي إلى منصة نقاش سياسي وثقافي متقدم. كانت الناس تجتمع لتناقش أوضاع البلد، ارتفاع الأسعار، القوانين الجديدة، قرارات الحكومة، بل حتى في بعض الأوقات، كانت تصدر منها مطالب وتوصيات.
وفي زمن الغزو العراقي عام 1990، تحولت كثير من الديوانيات إلى مقرات مقاومة شعبية ومعنوية. بعضها احتضن لقاءات عائلية خطرة، وبعضها ختم بالشمع الأحمر من قبل الاحتلال، لأنها كانت مكانا للثبات والهوية، لا مجرد مجلس عادي.
تطورها مع الزمن
لم تتوقف الديوانية عند شكلها التقليدي. مع تطور المجتمع، تطورت هي أيضا. بعضها تحول إلى مبان مستقلة خارج المنزل، مجهزة بكل وسائل الراحة الحديثة: تكييف، شاشات، طاولات لعب، إنترنت، وحتى قاعات سينما منزلية. لكن رغم هذا التغير، بقي الجوهر كما هو: اللمة، الحديث والاحترام.
حتى في الجيل الجديد، ما زالت الديوانية موجودة، لكنها أصبحت أيضا منصة لاجتماعات عمل، لندوات فكرية، وحتى لتجمعات شبابية تناقش التكنولوجيا والسياسة والرياضة.
الديوانية النسائية
غالبا ما ترتبط الديوانية برجال الكويت، لكن لا يمكن إغفال الديوانيات النسائية، التي ظهرت بشكل أوسع في العقود الأخيرة. أصبحت النساء يخصصن مجالس يجتمعن فيها للنقاش، والترفيه، وتبادل وجهات النظر، والمشاركة المجتمعية. لم تكن صورة مكررة من ديوانيات الرجال، بل مساحة مستقلة لها خصوصيتها، وطابعها، وأسلوبها في بناء العلاقات.
أكثر من مجرد مجلس
الديوانية ليست طوفه وسجادة وقنفات وبيالة شاي. هي مكان يعلمك الإصغاء قبل الحديث، ويربيك على احترام الآخر، ويشعرك بأنك جزء من نسيج اجتماعي لا يعيش وحده. فيها يتعلم الشباب كيف يتحدثون أمام الكبار، ويتعلم الكبار كيف يستمعون إلى الشباب. فيها تولد العلاقات، وتصلح القلوب، ويربط الحي ببعضه، وربما تحسم خلافات بين عائلتين على فنجان قهوة.
ختاما
تظل الديوانية جزءا لا يتجزأ من الهوية الكويتية. منبع للتواصل، ومرآة صادقة تعكس شكل المجتمع بكل أطيافه. وإذا كانت البيوت تعبر عن خصوصية الإنسان، فالديوانية تعبر عن علاقته بالناس. علاقة لا تصنعها المصالح، بل تصنعها القهوة، والكلمة الطيبة، وسوالف لا تنتهي.

مستشار وخبير في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تطوير المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية، صانع محتوى وأوامر الذكاء الإصطناعي.