المطبخ الكويتي القديم: فن البساطة ودفء الطعم
في زوايا البيوت الطينية، حيث الجدران سميكة لتحفظ البرودة في صيف الكويت القاسي، وحيث النوافذ الصغيرة تفتح على فناء تتناثر فيه أواني النحاس والفخار، كان ينبض قلب البيت: المطبخ. ليس المطبخ الحديث بأجهزته الكهربائية اللامعة، بل ذاك الركن الصغير الذي توقد فيه النار على الحطب أو الفحم، وتحضر فيه الأكلات بحب وهدوء، وعلى مهل يشبه الوقت في أيام الكويت القديمة.
لم يكن المطبخ الكويتي مجرد مكان للطهو، بل كان مسرحا للذاكرة اليومية، وملتقى للنساء، ومدرسة تلقى فيها البنات أول دروس الحياة. لم تكن المكونات كثيرة، لكن النكهات كانت صافية، عميقة، صادقة. مكونات بسيطة مثل الأرز، العدس، القمح، السمك المجفف، التمر، والبهارات القادمة من الهند، كانت كافية لابتكار أطباق تبقى في البال مدى العمر.
كانت أمهات الأمس يجدن المتعة في إعداد الطعام، لا بوصفه مهمة منزلية، بل طقسا اجتماعيا وروحيا. يبدأن اليوم بتحضير الهريس أو الجريش، حيث ينقع القمح منذ الليل، ويسلق في قدر ضخم يعرف باسم “الجدر”، يوضع على نار هادئة تغذى بالحطب. ومع دوران الملعقة الخشبية في القدر، تدور معها الحكايات، وتروى القصص، وتنتقل التقاليد.
أشهر الأطباق كانت تعد بمقادير بسيطة، لكنها تغني عن الولائم. المجبوس مثلا، أرز بلون الشمس ممزوج بلحم الغنم أو الدجاج، تفوح منه رائحة الهيل والليمون الأسود. أو التشريبة، حيث قطع الخبز تغرق في مرق دجاج مطبوخ مع الخضار، وتقدم ساخنة في الشتاء، لتشعل الدفء في الأجساد.
وفي رمضان، كان للمطبخ نكهة مختلفة. النساء يقمن بإعداد الهريس قبل الفجر، ويتركنه يطبخ لساعات حتى يصبح كريمي الملمس، ويقدم مع السمن البلدي و السكر. أما في العيد، فكان إعداد اللقيمات والبثيث من الطقوس التي تجمع الجدات والأمهات والبنات في حلقة دافئة تعج برائحة الزعفران وماء الورد.
لم تكن هناك ثلاجات تحفظ الطعام، فكان الاعتماد على التجفيف والتخليل، وهذا ما منح الأطعمة طابعا فريدا. الأسماك مثل الزبيدي والخثاق كانت تجفف وتخزن، وكذلك التمر الذي يخزن في الجفير أو الجراب لحين الحاجة. الماء يبرد في “الفرارة” المصنوعة من الفخار، والخبز يخبز في التنور أو “الملة”، في ركن من البيت لا تقترب منه إلا امرأة تعرف نار الطين ولغتها.
حتى أدوات المطبخ كانت تحكي قصة. الملاس الكبير، والجدر النحاسي، والمضرب الخشبي، والمصفاة اليدوية، لكل منها اسم ووظيفة وتاريخ. وكل خدش على سطحها هو شاهد على وليمة أو اجتماع أو لحظة عائلية لا تنسى.
المطبخ الكويتي لم يكن فقط مكانا لإعداد الطعام، بل كان ذاكرة جماعية، ومتحفا حيا للتقاليد. كانت رائحة الطبخ تتسلل من بيت إلى بيت، تقرع أبواب الجيران وتجمعهم على صحن واحد. وكان الطعام يرسل كهدية، بلا مناسبة، فقط لأن المودة كانت توزع مثل الخبز، دون حساب.
ورغم مرور الزمن وتغير الأدوات، تبقى نكهات الماضي تسكن في الوجدان. قد تتغير الطرق، وتتطور الوصفات، وتظهر الأفران الكهربائية، لكن رائحة الهيل في المجبوس، وصوت غليان الهريس، ولمعة السمن على وجه الجريش، تظل شواهد حية على أن فن الطهو في الكويت كان دوما فعل حب، ومصدر دفء، وحكاية لا تنتهي.
مستشار وخبير في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا. تطوير المواقع الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية، صانع محتوى وأوامر الذكاء الإصطناعي.
